محمد فاروق
المجتمع المصرى أجمل ما اتسم به على مر العصور هو الوسطية، فالوسط فى كل شىء ممدوح، والاعتدال خير الصفات، فخير الأمور الوسط.
وفى الإنفاق، أمرنا ديننا الحنيف بالاعتدال، فقال الله تعالى “ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا”، فكل شخص ينفق وفقا لسعته ولقدراته بحيث لا يمسك على نفسه ولا يبخل على أسرته، وفى الوقت نفسه لا يبذر تبذيرا ولا يضيع مدخراته على أشياء غير ضرورية، فتلك المدخرات هى التى تعينه على تقلبات الدهر وتنقذه إذا ما وقع فى ضيق.
والأسرة المصرية حرصت دائما على أن تربى أبناءها على الوسطية، فلا تفريط ولا إفراط، ولا انحراف ولا تشدد، ولا بخل ولا تبذير، ولكن ما نراه حاليا ورغم الأحوال الاقتصادية الصعبة التى طالت الجميع ليس فى مصر فقط بل العالم كله، فإننا نجد أن هناك سفها وإسرافا فى الإنفاق قد أصاب الأسر المصرية، ولا يتناسب مع الأحوال والظروف التى نمر بها، وصرنا نربى أولادنا على التبذير والسفه دون أن ندرى، فانظروا على سبيل المثال ماذا يأخذ الأطفال معهم الآن فى المدرسة من وجبات غذائية “محشورة” فيما يسمى بـ “اللانش بوكس”، قمة السفه والاستفذاذ، لحوم ودجاج ومقليات، بيتزا ومخبوزات، إلى جانب الشيكولاتات والحلويات بكل أنواعها، وكأنها وجبة غداء دسمة لشخص بالغ وليست إفطارا لطفل، فبخلاف التكلفة اليومية الباهظة لهذه المأكولات، فإن هذه الأغذية لا تمت بأى صلة للغذاء الصحى الذى يحتاجه الطفل، زيوت ودهون، حلويات وسكريات، مخبوزات ومعجنات، وبعد كل ذلك نتعجب من السمنة التى أصابت أبناء مجتمعنا، والأمراض التى أحاطت حاليا بالأطفال من كل جانب والتى لم تكن فى الماضى تصيب سوى الكبار، هذا بخلاف أمراض المجتمع من الغيرة والحقد بسبب الإسراف الزائد من فئات عديدة وفى المقابل هناك من يعانى بسبب الأحوال الصعبة.
الإسراف والبذخ الزائد والإنفاق المفرط أحاط بمجتمعنا من كل الجهات وفى كل مناحى الحياة، فى الزواج وتجهيزاته وحفلاته وسفريات شهر العسل.. فى الولادة وحفلات القاعات للسبوع والعقيقة.. فى المدارس والجامعات والتعليم بصفة عامة.. فى المولات فى الملابس فى الأكل فى الشرب.. فى الأجهزة والموبايلات والبلاى ستيشن والتليفزيونات الأحدث والشاشات الأكبر والثلاجات الأضخم والغسالات الأفخم.. فى الرحلات فى السفريات.. فى كل شىء وأى شىء من أصغر شىء لأكبر شىء، سفه تبذير بذخ غير مبرر ولا يتناسب مع دخلنا ولا أحوالنا ولا ظروفنا.
والمصيبة الأكبر هى التقسيط، فالكل أصبح بإمكانه اقتناء أى شىء فى لحظة حتى ولو لم يملك ثمنه، حتى ولو لن يستطيع السداد، المهم هو حالة النشوة والسعادة التى يسببها الشراء، فعندها يفقد الشخص كل قدراته على الحساب والتفكير فى كيفية سداد هذه الأقساط ولا يفكر سوى فى المتعة الحالية وهى الاقتناء.. وساعتها يقول: “يا سيدى قول يا باسط”، و”اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب”.. ولكن الكارثة أننا أصبحنا لا نكتفى بصرف ما فى الجيب، بل تخطينا هذه المرحلة وأصبحنا نصرف ونشترى ونقتنى وليس فى الجيب شىء.
هل الناس وصلت لمرحلة متأخرة من اللامبالاة بسبب كثرة الضغوط؟ أم أننا صرنا فريسة لنظام اقتصادى جديد قائم على الإغراء المحترف والتزيين المزيف لعمليات الشراء الشره؟
نحن فى حاجة ماسة للتروى والتأنى وحساب ظروفنا وأحوالنا قبل الوقوع فى فخ الاقتناء ومصيدة حب التملك، فمعظم ما نسعى لشرائه ويتسبب فى إجهادنا هو فى الأساس ليس من متطلباتنا ولا ضرورياتنا، ولكنه للأسف هو فقط من صنع وخلق وسائل الدعاية المختلفة.