بقلم: محمد فاروق
الحرب الاقتصادية بين أمريكا والصين ستظل مشتعلة لفترات طويلة، بل إنها تزداد توهجا كل يوم وتأخذ أنماطا وصورا جديدة بشكل متسارع.
فعلى الرغم من توعدات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بفرض الأسلوب والهيمنة الأمريكية على العالم كله، فإن الصين مازالت الدولة الأكثر تحديا له والمستعصية على فرض أى قيود عليها.
فبعد أن فرضت أمريكا قيودا على صادرات أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية للصين، بهدف إبطاء تقدمها فى المجال التكنولوجى والذكاء الاصطناعى، إذ بشركة صينية صغيرة نشأت عام 2023 فقط تدعى “ديب سيك” DeepSeek تتحدى كل ذلك وتنجح فى تطوير نماذجها وتطبيقاتها وتسيطر على السوق العالمية بأقل الإمكانيات والتكاليف وفى وقت قليل بشكل مذهل.
ففى غضون عام واحد فقط، تمكنت “ديب سيك” من تقديم نماذج ذكاء اصطناعى نافست بها كبرى الشركات العالمية من حيث الأداء والتكلفة.
وفى يناير الماضى، تمكن تطبيق المحادثة الجديد “ديب سيك R1” من منافسة عمالقة الذكاء الاصطناعى الأمريكيين OpenAI ، ChatGPT ، وتربع تطبيق “ديب سيك” على قمة تنزيلات “آيفون” فى أمريكا بعد إطلاقه.
وتسببت قفزات شركة “ديب سيك” المتلاحقة فى اضطراب أسواق المال العالمية، فشهدت أسواق التكنولوجيا الآسيوية انخفاضا فى أسهم الشركات الكبرى، كما تسببت فى خسائر ضخمة لشركات التكنولوجيا الكبرى فى أمريكا، وأصبح تطبيق “ديب سيك” المجانى هو الأكثر تحميلا فى أمريكا وبريطانيا والكثير من دول العالم، واعتبر الرئيس ترامب نفسه أن ظهور هذا التطبيق يعد إنذارا لشركات التكنولوجيا الكبرى.
هذه الشركة الصينية الناشئة فى مجال الذكاء الاصطناعى، تأسست برأس مال يوازى 1.4 مليون دولار فقط على يد “ليانج وينفنج”، وهذا الاسم يبدو أنه سيتردد كثيرا الفترة القادمة، وسيكون له تأثير بالغ فى عالم التكنولوجيا على مستوى العالم، فهذا العبقرى الجديد من مواليد عام 1985، وحصل على البكالوريوس والماجستير فى الهندسة الإلكترونية والمعلومات من جامعة تشجيانج الصينية.
واستراتيجية “ديب سيك” تقوم على البحث والتطوير، فهى تستقطب المهندسين الشباب المميزين حديثى التخرج من الجامعات الصينية لتطوير نماذجها، وتمنحهم رواتب مجزية، وبالفعل نجح هؤلاء المهندسون فى استخدام الموارد المحدودة المتاحة وتغلبوا على القيود الأمريكية المفروضة على الصين.
وأوضحت “ديب سيك” كيفية بناء نموذجها الأخير بتكلفة لا تتجاوز 6 ملايين دولار باستخدام شرائح أقل تطورا، وأكدت قدرة مهندسيها على تحقيق أقصى استفادة من الموارد المحدودة، ويكفى أن نعلم أن شركات مثل “ميتا” و”مايكروسوفت” خصصت ميزانيات رأسمالية ضخمة تتجاوز 65 مليار دولار العام الجارى لتطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعى.
ولم تبخل شركة “ديب سيك” على مستخدميها، حيث ركزت على تطوير نماذج ذكاء اصطناعى مفتوحة المصدر، بحيث تتيح للمستخدمين إمكانية تحسين البرمجيات بمنتهى الحرية، فهى تشارك اكتشافاتها بدلا من حجبها، وبذلك تهدف “ديب سيك” إلى جذب أكبر عدد ممكن من المستخدمين.
ما تفعله الصين وتحديدا شركة “ديب سيك” يرسى مبادئ جديدة ويضرب بعرض الحائط المفهوم القديم بأن الذكاء الاصطناعى يتطلب موارد ضخمة لتطويره، فنجاح “ديب سيك” سيجبر الشركات الكبرى على خفض أسعار خدماتها إذا أرادت الاستمرار والحفاظ على وضعها فى السوق العالمية.
إذن الصين لم تصب بأى إحباط أو تخوف بعد فرض القيود الأمريكية عليها، وأثبتت كالعادة أنها قادرة على تطوير التكنولوجيا بأقل الإمكانيات والموارد، فهى دائما لديها قدرات هائلة على إيجاد حلول غير تقليدية وخارج الصندوق، وتؤكد باستمرار أن القيود التجارية الأمريكية عليها ليست فعالة فى إعاقة تقدمها.
بل على العكس، فالصين هى التى صدرت المشكلة للرئيس الأمريكى وعمالقة “وادى السيليكون” وشركات التكنولوجيا الأمريكية ووضعتهم فى مأذق حقيقى، بعد أن استطاعت أن تحول أزمة القيود الأمريكية عليها إلى ميزة من خلال توفير بدائل صينية للمنتجات الأمريكية بكفاءة تكاد تكون مشابهة لها فى الأداء ولكن بتكلفة أقل بكثير، فالتنين الصينى العملاق سيظل دائما يفاجئ العالم كل يوم بولادة تنانين صغيرة جديدة تخرج للضوء مفترسة جامحة لا تحتاج لأى فترة إعداد أو تأهيل.