المصور المحترف يرى الجمال ويلتقط بعدسات كاميراته لقطات جميلة لايراها غيره.. لو أحضرت عشرة مصورين وطلبت منهم تصوير نفس المكان، سيصوره كل شخص منهم من منظور مختلف، فالمتعارف عليه أن العين هى التى ترى ولكن فى واقع الأمر، العين ما هى إلا النافذة التى تطل منها الروح على العالم الخارجى .. الرؤية أو البصر هى قدرة الدماغ والعين على كشف الموجة الكهرومغناطيسية للضوء لتفسير صورة الأفق المنظور. والعين ما هى إلا عدسة تنقل للعقل ما يريد أن يراه .. هذه حقيقة علمية ولكن يقبع خلفها رؤية فلسفية، وهى أننا لا نرى إلا ما نريد أن نراه.
ولعل هذا ما قاله الشاعر العباسى الضرير بشار بن برد: “ياقوم أذنى لبعض الحى عاشقة” فى إحدى قصائده الغزلية، وقد اكتشف العلم الحديث أن المخ يرى قبل العين أحيانا.. وأن مخ الإنسان هو الذى يرسل إشارة كهرومغناطيسية إلى العين لتنقل له الصورة الضوئية لما التقطه هو.
اخترت هذا المدخل لمقال اليوم، لأننى فى مرحلة من العمر، تجعلنى أرى الأمور بمنظور مختلف عما كنت أراه بالأمس القريب.. فى صغرنا نرى الأمور بشكل مختلف، نُضخم الأشياء ونعطى للبعض وللأمور وللمشاكل حجم أكبر بكثير من حجمها الحقيقى، ومع الأيام والسنوات والخبرات، يبدو كل شىء صغيرا ويبدو لنا أن ما قلقنا منه وضخمناه لم يكن إلا وهما توهمناه، وما خفنا منه وخشينا من حدوثه، لم يكن بهذه الأهمية وأن أفضل طريقة لقهر الخوف هى مواجهة ما نخاف منه ونخشاه.
التفاؤل والأمل ورؤية الجميل فى كل موقف، هى رؤية عقل أولا وأخيرا، فالمتفائل يرى دائما الكأس المملؤة إلى نصفها بينما المتشائم لا يرى إلا النصف الفارغ .. والأمل هى تلك النافذة الصغيرة التى مهما صغر حجمها، إلا أنها تفتح آفاقا واسعة فى الحياة.. فإذا نظرت بعين التفاؤل إلى الوجود، لرأيت الجمال شائعا فى كل ذراته، بينما هناك من لايرى إلا كل ما هو مقلق ومرعب ومٌخيف.. وكما قال جبران خليل جبران: “هناك من يتذمر لأن للورد شوكا وهناك من يتفاءل لأن فوق الشوك وردة”.. مرة أخرى تثبت هذه المقولة أن الأمر متروك لعقولنا لترى النصف الممتلئ من الكوب وأن ترى الوجدد جميلا لأنك جميل الفكر والعقل والروح.
إننا نستقبل رسائل الآخرين الفكرية عن طريق قلبنا الذى هو مركز الشعور .. أحيانا تجلس إلى شخص وتتكلم معه ولا يقول الكثير ولكن تستطيع أن تقرأ أفكاره حتى وإن لم يقلها صراحة، إنها الروح التى تلتقط الطاقة التى يبثها الآخرون وتترجمها وتتقبلها أحيانا وتلفظها أحيانا أخرى، حسب ما يتوافق مع رؤيتها .. يوجد أناس أخيار يبثون طاقة إيجابية، كلها خير وحب و سلام وراحة ويوجد آخرون يبثون طاقة سلبية وكره وحقد وأنانية وهكذا..
نحن الآن نعيش فى قرية مفتوحة، العالم كله أصبح مفتوحا على مصراعيه لجميع من هم على الكرة الأرضيىة .. يكفى أن يطل علينا رئيس أقوى وأكبر دولة فى العالم بنبت أفكاره كل يوم بتويتة على تويتر تعبر عن مكنون نفسه وأفكاره ومستوى تعليمه ومستوى تفكيره وعمق وسلامة روحه ورقى أفكاره أو شذوذها.. وبسبب هذه التويتات غير المدروسة وبسبب الاندفاع والعنصرية والاستهتار بالآخرين، فقد ترامب فرصته فى أن يظل حاكما لأمريكا لفترة أخرى وهو ما يعد هزيمة له لم يستطع تقبلها. وعاقبته إدارة تويتر بحظر حسابه عليه لأنه عنصرى يستغل وسيلة التواصل الاجتماعى الأكثر انتشارا فى العالم برعونة وبدون تفكير ظنا منه أنه رئيس أمريكا وأن معه القوة وأن له الحق فى أن يقول ما يقول ويفعل ما يفعل ولا يحاسبه أحد… فماذا كانت النتيجة؟ خسر ترامب خسارة ليست فقط سياسية ولكن إنسانية، سقط سقوطا مدويا عندما لفظه الجميع.. والسبب، الاندفاع والغرور والنرجسية.. آفات تقتل أى نجاح ولا تلقى أى احترام ولا تؤدى إلا إلى الخسارة الفادحة.
توفيت الداعية عبلة الكحلاوى إثر إصباتها بفيروس كورونا، لاحظنا كلنا كيف استقبل الناس فى مصر والعالم العربى نبأ وفاتها، لن أقول بكى الناس ولا “ولولوا” ولكن لا شك أنها تركت بصمة جميلة فى عقول وقلوب الآخرين .. كانت السيدة رقيقة الشعور وراقية الفكر والحديث، لا تتعصب، تزن الكلمة قبل أن تنطق بها ولم يحدث أن أثارت ضجة بفتوى غريبة أو كلمة خارجة أو فكر منحرف، تستطيع أن تقول بكل بساطة إنها تركت بصمة جميلة فى قلوب وعقول الجميع وما أجمله من إرث.. الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة، تطرح ثمارا مفيدة للناس وتترك الأثر الطيب دوما ودائما.
توفى محمد الصغير، الذى كانت بداياته فى مهنة تصفيف الشعر ونجح فى أن يبنى إمبراطورية اقتصادية ضخمة من هذه المهنة وصلت لحد أنه أصبح وكيلا حصريا للعديد من العلامات التجارية العالمية فى مجالات مختلفة وأصبح قامة كبيرة فى عالم البزنس وإدارة الأعمال فى مصر والعالم العربى، عن نفسى ما أن سمعت خبر وفاته، حتى مر أمامى شريطا يوثق لنجاح الرجل وأثره الذى تركه فى كل من حوله مع إننى لا أعرفه معرفة شخصية ولكن يكفى بصمة الروح التى نتركها خلفنا، ليستشعرها الجميع عنا.
كم مر فى حياتنا من أشخاص تركوا أثرا جميلا وكم مر أشخاص تركوا أثرا بشعا، هل فكرت يوما فى الأثر الذى ستتركه فى حياة الآخرين؟ هل فكرت فى أثر كلماتك وتصرفاتك عليهم؟ كم مرة صُدمنا ا فيمن حولنا، عندما اكتشفنا حقيقتهم التى لاتعرف الحب ولا السلام ولا احترام الآخر.
البعض يريد الاحترام والتقدير ويعيش فى خناقة مستمرة بينه وبين نفسه وبينه وبين الآخرين وكأن الاحترام كوب شاى يطلبه أو حقيبة يشتريها … الاحترام يُستحق ولا يُطلب،، نناله بجدارة ولا يُشترى بمال ولا نفوذ ولا قوة، ولكل إنسان بصمة روح مميزة لا تتكرر مثلها مثل بصمة الإصبع تماما، فلنحرص على أن ترى عقولنا الجميل فى الآخرين وفى الحياة وفى كل الظروف، فالأمل عبادة والمستقبل المزدهر لأولئك الذين يؤمنون بمقدرتهم على تحقيق أحلامهم.
