العنصرية، آفة البشرية، ظهرت مع بدء الخليقة، عندما رفض الشيطان السجود للإنسان لأنه مخلوق من طين بينما هو مخلوق من نار وتسبب سلوك الشيطان فى نشوء صراع الخير والشر الذى لن ينتهى إلا يوم البعث.
أصبحت العنصرية مؤخرا المُسبب الرئيسى لمعظم حوادث الإرهاب فى العالم.
عند سماعى بحادث قتل المسلمين فى مساجد نيوزيلندا على يد مُتطرف أبيض، عدت بذاكرتى إلى الوراء، إلى السبعينيات. كان عمرى آنذاك خمس سنوات عندما ابتعُث أبى لماليزيا لدراسة الماجستير فى أمراض البلاد الاستوائية ورافقته أنا وأمى. كطفلة لا تعى الكثير، تركت عالمى الذى أعرفه وانتقلت إلى بلاد بعيدة غريبة.. أول ما لفت نظرى هناك هو أن شكلى غيرشكلهم وأنهم يتكلمون لغات لا أفهمها وأن سكان البلد متنوعون فى كل شىء، حتى فى الشكل، فشعب ماليزيا يتكون من ثلاثة أعراق مختلفة، المالويون وهم سكان البلد الأصليون وهم الغالبية ويدينون بالإسلام، ثم الصينيون بنسبة 20% ويعتنقون المسيحية والبوذية ويحتكرون التجارة،، ثم الهنود، باختلاف أطيافهم ودياناتهم ومعقتداتهم، ويشكلون نسبة بسيطة ولكن ملحوظة فى ماليزيا.
اكتشفت أن الأرز بالكارى هو الطبق الرئيسى للشعب الماليزى، فهم يتناولونه طبقا أساسيا فى الوجبات الثلاث. كان صادما لى كطفلة أن أرى جيرانى يتناولون أرزا فى الإفطار فنحن غير معتادين على هذا، وأيضا لا يتناولون اللحوم والأسماك بالكميات التى نأكلها نحن، فأكلهم عبارة عن لقيمات قليلة وأوزانهم أيضا قليلة جدا، ولعل العصى التى يستخدمونها بدلا من الشوكة والسكينة مقصود بها أن تكون كمية الطعام قليلة، ليس بخلا، بل أسلوب حياة. ولم أكن أعى فى هذا الوقت أن مناطق زراعة الأرز تتركز فى شرق وجنوب شرق آسيا حيث تساهم دول هذه المنطقة بنحو 90% من إنتاج الأرز فى العالم، وإن الإنسان يأكل ما يوجد فى محيطه فلا عجب إن كان الأرز طبقا رئيسيا فى حياة شعوب هذه المنطقة.
من الذكريات التى ظلت عالقة فى ذهنى مشهد استدعاء أبى إلى المستشفى بعد أوقات العمل الرسمية وأحيانا فى ساعات متأخرة من الليل لسببين؛ الأول سقوط ثمرة جوز هند على رأس على أحد المواطنين والثانى إصابة أحدهم بلدغة ثعبان سام. وأحيانا كان المصاب يموت ووقتها فهمت أن أشجار جوز الهند التى تزين المكان وتعطيه طبيعة خاصة والتى أعشق شرابها وطعم ثمارها، من الممكن أن تفتك بالبعض وتقتله وأن كل شىء فى الكون له جانب حلو وآخر مر وحمدت الله أنه لا يوجد فى بلادنا ثعابين.
ومن الحوادث أيضا التى كانوا يستدعون أبى فيها كثيرا، وصول مصاب بصاعقة من أثر البرق الذى كان يضرب الولاية بشكل يومى مع المطر حيث إن المناخ هناك استوائى مدارى مما يعنى أن ترى الفصول الأربعة فى اليوم الواحد.. وخرجت من هذا المناخ الذى عايشته أيضا بخلاصة فحواها أن هناك مصائب خارج نطاق سيطرة البشر.
ووجدتنى أيضا أستدعى من الذاكرة، مشهد دخول بقرة أحد الرعاة الهنود لحديقة منزلنا.. وقد تعلمنا ألا نقترب من البقرة وإلا تعرضنا لمشاكل لا حصر لها من قبل صاحبها حيث إن البقرة مُقدسة لدى بعض الطوائف الهندوسية، ولا يجب أن يتعرض لها أحد ولا يؤذيها، وكل ما عليك فعله هو الاتصال بالشرطة التى تأتى لتأمن خروجها بسلام وبدون أى مشاكل، وقد تستغرق العملية على بساطتها ساعات لأن صاحب البقرة لن يجبرها على الخروج بل سيسايسها حتى تخرج عندما يروق لها، وفهمت فى سن مبكرة أنه أيا ما كان اختلاف معتقدات الغير عنا فعلينا احترام هذه المعتقدات.
أما جارتنا الصينية، فقد تعجبت من إننا نرمى أحشاء الدجاج، المذبوح آنذاك على الطريقة الإسلامية، والريش وطلبتهم من أمى لأنهم يطهون الأمعاء ويأكلونها ويصنعون مراوح من الريش! وطبعا الموضوع فى وقته كان غريبا علينا وكان مثارا للتندر، لكن فهمت لاحقا أن هناك شعوبا تعيش بأسلوب يختلف عنا، ومثلما تأكل الجارة الصينية أمعاء الدجاج، فنحن نأكل أيضا أمعاء البقر والغنم فيما يسمى بالممبار!
حتما لم أفهم وقتها أن الشعب الصينى شعبا عظيما، ولا عجب فقد أصبح اليوم الhقتصاد الصينى ثانى أكبر hقتصاد فى العالم وقد وصل لهذا لأنه شعب يُحسن استغلال موارده ونجح فى تطوير الصناعة التى تعد أهم مقومات ازدهار اقتصاد الدول وتطورها.
ولا أنسى أيضا أننى كطفلة من جنس غريب، تعرضت للاضطهاد من طفلة صينية فى الفصل، فقد حذرت أقرانها من الاقتراب منى أو التحدث إلىّ ولا أعرف حتى هذا اللحظة كيف تكون طفلة بمثل هذه العنصرية؟!
يوجد مشهد محفور فى خيالى وهو وقوفى وحيدة فى حديقة المنزل وكل أطفال الجيران متجمعون فى حديقة المنزل المقابل صامتون وينظرون إلىّ بترقب، فقد كنت أنا بالنسبة لهم الآخر الذى لايشبههم، ولم يحاول أىٌ منا التقرب للآخر، بينما راحت أمى تشجعنى أن أحاول وأبادر وأقدم لهم نفسى وأنضم إليهم بينما الخوف من الرفض يمنعنى، وبمرور الأيام كسرنا حاجز الخوف واقتربنا.
ومثلما كانت الطفلة الصينية مثالا للشر المبكر الذى خبرته، فقد أهدتنى الحياة طفلة صينية أخرى كانت أكثر إنسانية منها عندما انتقلت إلى مدرسة أخرى فى ولاية مختلفة، فقد صارت أعز صديقة لى آنذاك.
الخلاصة قضيت فى ماليزيا مايقرب من العامين من عمرى فى سن صغيرة جدا. وقد تركت هذه التجربة علامة مميزة داخلى وشكلت جزءا من ثقافتى وأثرت إيجابا فى شخصيتى، فقد تعلمت فى سن مُبكرة أن الاختلاف سنة الكون وأن الله خلق أجناسا مختلفة وأنه يوجد فى كل مكان ثقافات وعادات متنوعة وثرية وجميلة، وظللت حتى هذه اللحظة أهتم جدا بالغرباء إذا ما وضع الله أحدهم فى طريقى وأُسهل عليهم التقارب، وكيف لا وقد أوصانا الله بعابر السبيل ولعله كان يقصد هؤلاء الذين يمرون فى حياتنا مضطرين لفترة ثم يرحلون لاستكمال رحلتهم مع الأيام.
لاشك أن العالم أجمل بالتنوع، فنحن نتعلم من خلال هذا التنوع، لذلك تعد المقدرة على التواصل مع كافة البشر من أهم مقومات النجاح المهنى..
وقد قال الله تعالى فى كتابه العزيز “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّه أَتْقَاكُمْ إنّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.. التنوع مقصود ومطلوب ومحمود، فسلام على ماليزيا تلك البقعة الجميلة التى عرفتنى معنى الاختلاف وسلام على أرواح شهداء العنصرية فى نيوزيلندا وفى كل مكان فقد دفعوا حياتهم ثمنا لآفة شيطانية علينا جميعا أن نحاربها لأن كلنا بصورة أو بأخرى قد نكون هذا الآخر فى ظروف معينة.