الإيكونوميست المصرية
لا تنسَ تحديث جهازك المعرفى.. بقلم: نيفين إبراهيم

لا تنسَ تحديث جهازك المعرفى.. بقلم: نيفين إبراهيم


كم عمرك؟ سؤال قد يبدو بسيطا، فالعمر فى عُرف البعض هو مجرد رقم، لكن الأهم هو كيف تشعر فى هذه اللحظة؟ هل أنت سعيد؟ هل أنت راض عن حياتك؟ هل مازال لديك أحلام وطموحات وترغب فى المزيد من اكتشاف ذاتك والعالم من حولك؟ هل ترغب فى عمل شىء لم تتمكن حتى الآن من عمله؟ هل مازال لديك شغف بالحياة؟ هل تنتظركل صباح بلهفة لأنه لديك الكثير لتفعله؟
لا تقل لى إنك اكتفيت من كل شىء لأنك حققت كل ما تريد ولا تريد المزيد، ولاتقل لى إنك أصبحت شخصية تشاؤمية تجلس تنتظر الموت فى كل لحظة، فهذا هو الموت بعينه.
لطالما تأملت الشخصيات المؤثرة التى مرت فى حياتى ووجدت أن هناك صفة مُشتركة بينهم جميعاً، كلهم تقريبا لم يهتموا أبدا لأمر السنوات، عاشوا اللحظة، ضحكوا، خرجوا للحياة وأحبوها وعاشوا بحب مع أقرب الناس لهم وأجزلوا العطاء لهم..
أحد أهم هذه الشخصيات رجل قضاء، ثروته الحقيقية تكمن فى حب الناس، فى كم الأصدقاء المخلصين الذين يضيئون عتمة الأيام من حوله، فى تكوين ثقافى متين، يجعله وهو فى أواخر الثمانينيات من عمره، الشخصية المحورية فى أى تجمع، لا يُمل منه ويتشرف أى شخص بقضاء الوقت معه والإنصات لحديثه الممتع. وسيدة ملهمة أخرى، ظلت محبة للحياة حتى آخر نفس فى حياتها ورفضت أن تحصل على لقب امرأة مسنة، ظلت تستيقظ مبكرا وترتدى ثيابها وتتأنق وتخرج كل صباح إلى أى مكان، النادى، المزارات الدينية والأماكن الأثرية وهكذا، حتى وافتها المنية دون أن ترقد فى سرير المرض وتُتعب الآخرين معها وتُجبرهم على الاعتناء بها! أذكر أن جنازتها كانت جنازة متفردة، فقد مررنا بشكل تلقائى، نتيجة الطريق الذى كان متاحا وقتها، بكل الأماكن التى كانت ترتادها فى القاهرة بشكل جعلنى أؤمن أنها أصرت على توديع أماكنها المفضلة قبل أن تذهب إلى مرقدها الأخير.
لا يهم أن يستمر الشباب، فالشباب مجرد مرحلة من مراحل العمر ولكن الأهم هو ان يتمسك الإنسان بالرغبة فى الحياة بشغف وحيوية ولا يأتى عليه لحظة يجلس فيها ينتظر الموت.
وتوجد حكمة فرنسية تقول: “عمر الرجل كما يشعر وعمر المرأة كما تبدو”.
تقدم العمر ليس سداً أمام طموحك فقد اكتشف باستور علاجاً لداء الكلب عندما كان فى الستين من عمره.
على الإنسان أن يشغل نفسه دائما بأشياء تسعده، حتى ولو كانت بسيطة مثل ارتداء أحسن ما عنده من الثياب والذهاب إلى أقرب مقهى لتناول فنجان قهوة ساخن.
العلاقات الطيبة والأصدقاء يضيئون عتمة الأيام، فكما قال فرانز كافكا “لا سماء هذا المساء.. لا سهر..لا مدينة.. لا بلد.. أجلسُ فى آخر العمر.. متكئاً على وحدتى.. شارداً .. فى لا أحد”، فحذارِ من الوحدة من العزلة من الشعور بأنه لا شىء وراءك لتفعله. فى الواقع، يستطيع الإنسان خلق حياة جديدة لنفسه دائما إن أراد. لا تنتظر من الآخرين الاهتمام بك، عليك أن تهتم بنفسك.
يقول الله تعالى فى كتابه الكريم “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ” .
إذن فقد خصنا الله تعالى بالعلم والمعرفة، وهذا هو سر قوة الإنسان وأيضا سر سعادته على الأرض، فلا تتوقف فى المعرفة عند حد، عليك أن تقوم دائما بعمل تحديث لجهازك المعرفى كما تقوم بتحديث هاتفك الذكى، فهذا هو ما يبقيك متواكبا مع تطور إيقاع الحياة السريع فلا تصبح خارج الزمان، يتطلب الأمر وعيا بأهمية الأمر وبعدها تصبح عادة.
إن توقفنا عن التعلم لقلة الوقت يشبه إيقاف وتثبيت الزمن، فكما قال وليام شكسبير: “الزمن بطىء جدا لمن ينتظر.. سريع جدا لمن يخشى.. طويل جدا لمن يتألم.. قصير جدا لمن يحتفل.. لكنه الأبدية لمن يحب”.. هل لاحظتم أن الأبدية لفعل فيه تواصل؟
ويتطلب الأمر أيضا إتقان إدارة أيامك.. فلا نترك أنفسنا للظروف، لمن يسأل عنا، لمن يزورنا، علينا أن نخطط ليومنا وفق خطة تشغلنا وتبقينا على علم ووعى بما يحدث حولنا وتبعد عنا الملل.
أسوأ ما فى التقدم فى العمر هى الغربة التى يشعر بها المسنون، فأغلبهم يتوقف عن التفاعل مع محيطه، يكف عن القراءة، يتوقف عن رؤية آخرين لأنه لو نظر إلى الأچندة التى تحوى أرقام تليفونات أصدقائه سيجد أن أغلبهم قد رحل.. إذا تحدثت مع كبار السن، تجد أنهم دائما ما يجتروا أحداثا انتهت منذ زمن بعيد، فقد توقف بهم الزمن عند مرحلة ما.
لا تكن ذلك الشخص، اقرأ، اخرج، سافر، ابنِ علاقات جديدة، اخلق أهدافا جديدة حتى ولو كانت بسيطة، كأن تزرع وردة فى شرفة المنزل أو تزور دار مسنين أو دار أيتام أو حديقة للتأمل أو تذهب لمشاهدة فيلم فى السينما، أوتصنع أى شىء يُدخل البهجة إلى حياتك، لاتهدر وقتك فى التفكير فى تجارب مؤلمة، فما حدث قد حدث، لا تعش حبيس الماضى، عش اللحظة واستمتع بها.
لا تترك عقلك وذاكرتك للصدأ. أعرف امرأة إنجليزية تسعينية، تعيش بذاكرة جيدة جدا لأنها تلعب دائما “سودوكو”، تلك اللعبة اليابانية التى قال الأطباء إنها ساعدتها على تحسين قدراتها فى التركيز والتذكر.
إن أجمل ما فى العمر هم الناس الذين التقيناهم فى كل مرحلة، التجارب التى شكلت وجداننا وأفكارنا ومعتقداتنا، الأعمال الطيبة التى قمنا بها واعين أو غير واعين، الذكريات الحلوة مع أقرب الناس لنا، لا شىء يجعلنا سعداء أكثر من إحساس الرضا عن أنفسنا، عن الحب الذى قدمناه لمن حولنا، عن قرارت كانت صعبة ولكن اتخذناها، لايهم إن كانت صائبة أم خائبة، المهم أننا فعلنا ما أردناه، فما يبقى هو إحساس الرضا إن أصبنا أو الدرس الذى تعلمناه من فشلنا وصححنا به مسارات وأخطاء فى الوقت المناسب.. كل هذا يجعلنا أغنياء بالمعرفة والذكريات والحب والخير والتجارب ويُعيننا على الأيام ويجعل الإجابة عن سؤال كم عمرك أجمل وأعمق بكثير من مجرد رقم.

Related Articles