الإيكونوميست المصرية
مرور الكرام ……..مقال نيفين إبراهيم

مرور الكرام ……..مقال نيفين إبراهيم

بقلم: نيفين إبراهيم

مع نهاية عام وبداية عام ميلادى جديد، قررت كالعادة أن أعايد أصدقاء وشخصيات مؤثرة باعدت الأيام والسنوات بيننا ولكن بقوا فى القلب دائما، فقد مر أغلبهم مرور الكرام فى حيانى ولم يعودوا موجودين إلا من خلال الدرس الذى تعلمته من خلالهم.
الأولى سيدة فرنسية رقيقة تدعى “كلود” كانت زوجة أحد مديرى شركات البترول وكان أمريكى الجنسية، تعرفنا والتقينا عدة مرات ودعتنى إلى منزلها فى أواخر الثمانينيات، وانبهرت بمنزلها الرائع وبديكوراته المُبهرة.. أخذتنى السيدة الفرنسية إلى كل ركن فى المنزل وراحت تحكى لى عنه، كيف اشترت تلك القطعة الفضية على شكل سمكة من عمان، وكيف اشترت تلك القطعة الخشبية من إثيوبيا، وكيف قالت لزوجها فى أحد أعياد زواجهم عندما سألها عما تريد: إنها لا ترغب فى قطعة حلى أو مجوهرات ولكن ترغب فى شىء تزين به منزلهما معا.. وزينت أيضا هذه المرأة الجميلة وسط المنزل بحديقة داخلية كما يفعل أغلب الفرنسيين، وكانت الحديقة الداخلية مُبهجة، واستوحيت الفكرة منها وظللت كلما انتقلت إلى منزل جديد، فإن أول شىء أفعله هو الحديقة الداخلية والنباتات الطبيعية التى تعطى طاقة إيجابية فى المكان وتزيينه وتعطيه حياة .. أيضا وقت أن تعرفت على هذه السيدة، كنت حديثة العهد بأبوظبى وكان أصدقائى ومعارفى من مصر والعالم العربى، لا يهتمون كثيرا بفرش بيتوهم ويقولون إنهم فى غربة وسيعودون فى يوم ما إلى أوطانهم وأن بيوتهم هناك هى الأولى بالفرش والديكور.. ونظرت حولى فوجدت أن هزلاء عاشوا عشرات السنوات بهذه العقلية والنتيجة أن كل ما اشتروه على مدار السنوات قابع فى صناديق فى أوطانهم، لم ينعموا به ولم يستخدموه وعاشوا طوال أعمارهم فى بيوت بلا حس جمالى ولم يستمتعوا بثمار رحلة العمر بل أن أغلبهم مات قبل أن يفتح الصناديق!!.. أما صديقتى الفرنسية الجميلة، فقد علمتنى أن الإنسان يجب أن يستمتع حيثما وُجِد وأنه هو صانع الجمال وأن الجمال لا يصنعه المال بل تصنعه أشياء بسيطة وذكريات حلوة، وأن البيت هو المكان الذى نقضى فيه أغلب أوقاتنا وأن الزواج هو صناعة تاريخ للأسرة وأن العقد والحلق والخاتم والحرص عليه فقط هو شىء سطحى جدا ولا يجعل من المرأة امرأة جميلة، فالجمال أعمق من هذا بكثير.
ووجدتنى أستدعى من الذاكرة جارتى “ذوبى” تلك المرأة االكولومبية السمراء، المُفعمة بالحياة التى جاءت للسكن فى المبنى الذى أسكن فيه فى “أبوظبى” ونسميه بلغة أهل الإمارات “البناية”.. وفى الواقع نادرا ما تجد أحدا يبادر بالتواصل مع الجيران فى المبنى الذى أسكنه، إلا فى حدود ضيقة، بحكم تعدد الجنسيات وانشغال الجميع فى عملهم والحرص على أن تكون فى حالك.. فوجئت فى أحد الأيام بالباب يدق وكانت “ذوبى” التى قدمت نفسها لى وقالت: أود أن آتى مع زوجى لنتعرف ونتناول معكم فنجان شاى.. رحبت بها واتفقنا على وقت وجاءت هى وزوجها – وكان أمريكى أبيض- فى الوقت المحدد .. وتبادلنا أطراف الحديث ومر الوقت سريعا بدون أى تكلف ولا عقد وأكرمت ضيافتها وشعرت وكل من معى فى المنزل بسعادة غامرة، فالإنسان كائن اتصالى بطبعه ويحب من يصله.. ولم تنس “ذوبى” أن تدعونا إلى تناول فنجان شاى فى منزلها، ولبينا الدعوة، وكم كانت رائعة.. فتحت لنا أبواب قلبها قبل بيتها، وحكت لنا أنها وزوجها لم يرزقا بالأطفال وأنهم حزنوا بعض الشىء فى البداية ولكن بعد ذلك تقبلوا الأمر وقرروا أن يطوفوا بلدان العالم كلما أتيحت لهم الفرصة، وأخذتنا إلى غرفة المعيشة وكم كانت رائعة ومختلفة، زينتها كلها بأرفف على جميع الحوائط، ووضعت فوق الأرفف تذكارا من كل بلد زارته، فهذه العروسة من لندن وتلك من باريس وثالثة من إسبانيا وهكذا، كانت الغرفة أشبه بالمتحف، كل ركن فيها يحكى حكاية جميلة، وكانت عينا “ذوبى” تلمع كلما تذكرت من أين اشترت التذكارات، وكيف قررت أن تجمعهم كلهم فى مكان واحد لتزيين المنزل .. وتعضدت علاقتنا بذوبى وزوجها وتبادلنا الزيارات وفى كل مرة كنت استمتع جدا بصحبتها وبأحاديثها الراقية المتنوعة، وبعد أقل من عامين، تم نقل زوجها لبلد آخر وكان عليهم المغادرة، ودعتنا “ذوبى” إلى حفل الوداع Farewell party الذى أقامته لتوديع كل أحبابها وأصدقائها الذين تعرفت عليهم خلال وجودها فى الإمارات.. كان الحفل مبهرا ولم يكن الإبهار بسبب الفخامة ولا مآدب الطعام والشراب بقدر ما كان مبهرا من كم الناس والشخصيات العامة والمعروفة الذين لبوا الدعوة .. لا أخفيكم لم أكن أعلم أن “ذوبى” لها كل هذه العلاقات المميزة، ورحت أتأملها وأتأمل طاقتها الإيجابية وروحها البسيطة المحبة ورحت أتأمل الشخصيات النافذة التى لبت الدعوة، وفهمت أن الناس تحب من يحترمها ويتواصل معها ببساطة ويضيف إليها و”ذوبى” كانت من الشخصيات المُلهمة الرائعة، تلك الشخصيات التى تمر فى حياتنا مرور الكرام وتختفى تاركة وراءها الأثر الطيب المميز، أعترف أنها شخصية مميزة لم ولن تتكرر، تعلمت منها أن الجمال يُصنع وأن الشخصية الجذابة هى الشخصية البسيطة المحبة غير المتكلفة، وأن التواصل مع الآخرين فن لا يجيده إلا أصحاب النفوس الشفافة وأن معرفة الجيران واجبة.. وبدأ عندى حب جمع الدببة والعرائس التذكارية واللوحات الفنية من كل بلد أسافر إليه منذ أن تعرفت على “ذوبى” .. وأصبح لدى شغف جمع هذه الأشياء التى لا تُزين بيتك فقط ولكن تُزين أيامك وتثرى ذكرياتك وتجعل بيتك قصة جميلة تُحكى ولا يُمل منها وتجعل حديثك شيقا ومختلفا.
أما صديقتى العزيزة (ل) وهى إعلامية معروفة لها اسم معروف على مستوى العالم العربى كله ولكن اسمحوا لى أن أحتفظ بلقبها حتى لا أكون بمثابة من يتاجر ويتفاخر بمعارفه، فقد سألها زوجها فى عيد زواجهم العاشر عما تحب أن يهديه لها، فطلبت طاقم كريستوفل، فسألتها بتعجب: وليه طاقم شوك وسكاكين فى عيد جوازك؟ فردت علىَّ ردا لن أنساه قائلة: لن تؤكد الهدية الشخصية على حب زوجى لى ولن تضيف لى ولا لرصيده فى قلبى، ولكن الطاقم الفضى المميز سيزيد من فخامة منزلنا وسيظل هدية قيمة طوال العمر نفتخر معا بأن فى بيتنا طاقم مثله .. لا أخفيكم أعجبت بالفكرة، وتذكرت صديقتى “كلود” الفرنسية، نفس العقلية، عقلية “العين الشبعانة” وحب المنزل وتقديسه.
أتمنى أن أكون واحدة من هؤلاء الذين يتركون أثرا طيبا بين الناس فيتذكرونهم بالخير.. افتحوا قلوبكم لعام 2020 وليوفقنا الله جميعا وننجح فى قضاء أيامه بأعمال مفيدة صالحة وذكريات جميلة مع كل أحبابنا .. وكل عام وأنتم بألف خير.

Related Articles