الإيكونوميست المصرية
هؤلاء لم يتربوا على يد جدتى — بقلم: نيڤين إبراهيم

هؤلاء لم يتربوا على يد جدتى — بقلم: نيڤين إبراهيم


بقلم: نيڤين إبراهيم
نشأنا وتربينا على حب الوطن والعائلة والمدرسة والأهل والأصدقاء، كانت نظرة واحدة صارمة من الأم أو الجدة كفيلة بأن توقف كل منا عند حده إذا لا سمح الله ارتكبنا خطأً مقصودا كان أو غير مقصود. نشأنا أيضا على الصراحة، فقد كان علينا دائما أن نكون كالكتاب المفتوح مع الأهل ونتشارك معهم الأحداث والأفكار والأسرار، وكانت العائلة متفهمة ومثقفة وواعية.
مازلت أتذكر كلام جدتى وكأنه محفور فى خيالى من كثرة ما رددته لى ولجميع أحفادها: “عيب نتكلم عن اللى بيحصل فى بيوتنا قدام الأغراب”، “مهما عمل فيك أهلك لايصح أن تعاديهم ولا أن تفضحيهم ولا أن تخرج أسرار علاقتهم بك مع أى مخلوق، حتى وإن كان صديقك الصدوق”! .، ممنوع القيام بأية تصرفات من شأنها تقليل احترام الشخص لذاته .. لا للعتاب، لأنه يورث الكراهية، لا للقيل والقال، لا للتدخل فى حياة الآخرين وإن حدث، لابد أن نكون محضر خير . لا لاستعداء شخص على آخر . ألف لا ولا، جعلت حياتى سهلة ومُيسرة فيما يتعلق بالحفاظ على العلاقات العامة والخاصة القائمة دائما على الحب والاحترام.
ومثلما كانت خصوصية العلاقات الأسرية خطا أحمر لايجب مشاركتها مع أحد، كانت علاقتى بوطنى مصر منذ أن خرجت منها وأصبحت مغتربة. لم أرَ مصر أبدا إلا أجمل بلد فى الدنيا، أعرف مواطن قوتها وجمالها. تربيت بين متاحفها وشوارعها ونواديها وقرأت كل كُتّابها وأدبائها . زرت كل معالمها السياحية ومدنها الأثرية. كانت هذه الزيارات جزءا من برنامج النشأة التى تحرص عليها نسبة كبيرة من أسر الشعب المصرى. رضعنا الفن فى مصرهوليوود الشرق، بلد الفن والسينما والمسرح والفنون التشكيلية والتعبيرية. أول مرة سافرت فيها لأوروبا كانت لألمانيا وفى كل مدينة كانوا يأخذونا لنرى مُتحفها، فأخرج وأنا فى قمة التعجب! أين الآثار؟ أهذا الإناء المكسور تُسمونه آثاراً؟! وتشيدون به متحفاً؟!
وفى برلين عرفت أن أهم أثر عندهم هو رأس نڤرتيتى – الذى يصطف زوار المدينة بالساعات، ليلقوا نظرة على رأس الجميلة النائمة منذ عدة قرون بمنتهى العظمة – فغادرت برلين وأنا أزهو بمصريتى أكثر وأكثر. وفى إنجلترا تمثل الآثار الفرعونية أكبر نسبة معروضات فى المتحف المهيب ونفس الشىء فى لوڤر فرنسا!
ومازلت حتى هذه اللحظة، كلما زرت أى بلد أجنبى، أشعر بالزهو لأنى لم أرَ قط حضارة فى حجم حضارة مصر. عادة لا أذهب إلى أى بلد بقناعات مُسبقة، تعلمت أن أبحث عن هوية البلد الذى أزوره وأركز على ماضيه وتاريخه وحضارته، وبدون عنصرية وبمنتهى الموضوعية، ظلت مصر دائما بمتاحفها وقصورها وكنوزها فى الصدارة. ومع كثرة الأسفار، أصبحت أرى العالم بعيون مُتعطشة للمعرفة وللاكتشاف وأفرح بمواطن الجمال التى أكتشفها فى كل بلد أزوره وتعلمت أن الجمال والثقافة ليست حكرا علينا وأن الله عادلا، أعطى كل بلد ما يميزها ولكن كان لمصر النصيب الأكبر من حيث التاريخ والحضارة، فحقيقة تمتلك مصر كل المقومات التى تجعلها وجهة سياحية عالمية وفى الصدارة، فلدينا تاريخ وحضارة ومتاحف وشواطئ ومناخ جميل ومُدن متعددة، تصلح كل منها وجهة سياحية متفردة، وحقيقة رأيت بنفسى الجهود الجبارة التى تبذلها وزارة السياحة والهيئة العامة للاستعلامات للترويج السياحى لأم الدنيا. ولا أبالغ إن قلت إن جناح مصر فى كل المعارض العالمية المعنية بالترويج السياحى، هو الأكبر والإكثر إقبالا.
عشت فى الإمارات قرابة الثلاثين عاما وصار لها مكانة كبيرة فى قلبى، أحبها وأعتبرها وطنى الثانى. عندما أسافر خارج الإمارات، أشتاق إليها وأعود وأنا جد فخورة بأن هذا البلد الطيب نجح فى الوصول إلى مصاف العالمية من حيث المستوى المعيشى الذى ينافس أكثر الوجهات تميزا فى العالم من حيث النظام، النظافة والبنية التحتية التى تجعل أى أجنبى يفغر فاه متعجبا، كيف وصل أهل الإمارات إلى هذا المستوى المتميز. ولا يملك التاريخ إلا الانحناء احتراما وإكبارا للشيخ زايد، رحمه الله، الذى صنع معجزة نقلت الإمارات اليوم إلى مصاف الدول الكبرى، وكيف لا وقد أصبح جواز السفر الإماراتى، رقم واحد فى العالم متقدما على جواز أمريكا وكل الدول الأوروبية.
يحب شعب الإمارات قادتهم ويوقرونهم ويحترمون عاداتهم وتقاليدهم، وقد تعلموا أن يتقبلوا الاختلاف مع الشعوب الأخرى، يأخذون منهم مايناسبهم ويتركون ما يتعارض مع المورث الثقافى والشعبى . تعلمت فى الإمارات الاحترام والأدب والرغبة فى التطور. تعلمت أيضا أن كلمة “لا” غير موجودة فى القاموس ولا فى طريقة التعاطى مع الأشياء، فعندما يطلب منك شيئا فى العمل، لا تقل لا يمكن، لا تتفلسف بل قل “دعنا نرى كيف ننجز العمل”، وشهادتى مجروحة فيما يتعلق بالمستوى الاقتصادى والمعيشى فى الإمارات لأنى أعتبر نفسى إماراتية القلب، فقد عشت وأخذت فرصتى فيها كاملة وأصبحت واحدة منهم.
أعشق مصر وأحبها وأستثمر فيها وفخورة بمصريتى وتكوينى الثقافى ونشأتى بها وأراها أم الدنيا بحق ولا أسمح لمخلوق أن يخطأ فى حق مصر أمامى وأشعر بالفخر والزهو كلما أشاد الأصدقاء من جنسيات عربية مختلفة بكيف يرونها أم الدنيا بحق ويرددون أيضا، أننا المصريون لا نعرف قيمة بلدنا وتلمع عيونهم وهم يتحدثون عن مصر التى أنجبت أم كلثوم وعبد الوهاب وحليم ونجيب محفوظ وزويل وغيرهم.
أتعجب من بوستات الكراهية والحقد التى تُغلف بوستات البعض على وسائل الاتصال الاجتماعى وكأنهم أعداء البلد بمن فيه! ما الذى حدث؟! كيف يمكن أن يحدثك العالم بأسره فى كل مناسبة عن مصر وتاريخها وحضارتها وعظمتها بينما تنبعث من داخل جزء من شعبها كل هذه الطاقة السلبية تجاه البلد؟! كيف يمكن لأى شخص محترم أن يسمح لنفسه بالتقليل من شأن بلده وقادتها وتكريس صفحاته على بعض وسائل الاتصال الاجتماعى لبث السموم وسب البلاد التى ساندت مصر ووقفت إلى جانبها فى عز أزمتها؟!
أتذكر نظرة عين جدتى وأمى والخوف الذى كان يعترينى إن أخطأت أو تجاوزت، وأقول: هؤلاء لم تربيهم جدة مثل جدتى ولا أم مثل أمى، معذورون لم يتعلموا أن حب الوطن عقيدة وإيمان ويقين، لم يتعلموا حجم مصر ولا مكانة مصر، لقد رضعوا الكراهية والسموم فلا عجب.

Related Articles