بقلم: محمد فاروق
توصل علماء النفس إلى أن الإنسان فى شهور عمره الأولى وفى محاولاته لفهم ما يدور حوله بأساليب بسيطة تتناسب مع عقلة غير الناضج، يتعامل مع الأشخاص والأشياء بما يسمى بالعلاقة الجزئية، بمعنى أنه يرى جزءا واحدا فقط من الشخص أو الشىء الذى يتعامل معه، أى أنه يرى الشخص الذى أمامه إما طيبا أو شريرا والشىء إما جيدا أو سيئا وهكذا، حتى أنه يتعامل مع الشخص نفسه كأنه فردين مختلفين أحدهما طيب يستجيب لرغباته والآخر شرير لا ينفذ طلباته.
هذا الأسلوب الغريب البسيط يسمح له بفهم الأشخاص وإدراك الأمور. ومع مرور الشهور، يبدأ عقله فى النمو والنضج، ووعيه فى الاتساع حتى يفهم أن ماكان يفعله فى السابق فى الحكم على الأشخاص والأشياء يعتبر ناقصا، فيتضح له أن كل شخص وكل شىء به إيجابيات وسلبيات، مزايا وعيوب، فلا يوجد خير مطلق ولا شر مطلق، بل هناك مزيج، وهنا يبدأ فى استيعاب التناقض الموجود فى الشىء الواحد والاختلاف الذى تحمله الشخصية الواحدة ويبدأ فى تقبل التشويش الذى يحدث جراء ذلك وحينها تتحول علاقاته الجزئية مع ما حوله إلى علاقات كلية سوية.
هذا إذا تم بشكل صحى طبيعى، فماذا يحدث إذا لم يدرك الطفل ذلك، ولم يتقبل الاختلاف والتناقض، حينئذ سيظل يتعامل بعلاقات جزئية ناقصة مع الأشياء والأشخاص حتى مع نفسه.
وهنا تكمن المشكلة، هذا الكائن سيتحول إلى رجل ناضج جسمانيا فقط لكنه فى واقع الأمر عقليا عبارة عن طفل لم ينضج بعد، وسيتعامل مع الحياة بنفس أسلوب العلاقات الجزئية، فلن يقبل الاختلاف مع من حوله، ولن يسمح بالخطأ أو الفشل سواء له أو لغيره، ولن يسمع صوتا غير صوته، لن يرضى بلحظات الضعف الإنسانى بداخله، سيتعامل مع الحياة على أنها أبيض أو أسود فقط ولن يرى باقى الألوان.
سيتعامل مع الدين بعقلية ضيقة تنحصر فى الحلال والحرام فقط غافلا عن أمور المعاملات الأخرى فى الدين والتى تهم العباد أكثر، وهذا ما نعانيه اليوم ممن يخرجون علينا كل يوم بتحريم كل شىء وتجريم كل صغيرة، وهذا ليس معناه التفريط فى الحلال والحرام أو التهاون فى الحقوق والمظالم، لكن المقصود هو التيسير فى الدين واتباع الوسطية، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يخير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، وكذلك الفقهاء الأجلاء كانوا يدرسون الأمور من كل جوانبها وأبعادها دراسة شاملة ومتأنية، هذا هو النضج وهذه هى العلاقة الكلية الكاملة مع الأشياء.
لكن ما نراه اليوم عبارة عن أطفال تعيش فى ثياب رجال، تراهم فى الشوارع يختلفون على أتفه الأشياء وأبسطها، يتشاجرون لأن كل طرف لا يسمع غير صوته ولا يقتنع بغير رأيه، تراهم فى البيوت زوج وزوجة عبارة عن طفلين لا يرتقون حتى للزواج فما بالك بالإنجاب، لذلك ينتجون عاهات نفسية فى صورة أطفال وينتهى بهما الحال في الغالب عند المأذون، لذا تجد أن نسب الطلاق فى تزايد مستمر بسبب العناد والتشبث بالرأى والنظرة الجزئية الضيقة للأمور.
تراهم فى أماكن العمل، صراع مستمر بين العاملين بعضهم البعض، وعدم توافق بين المديرين والعاملين بسبب محاولات فرض وجهة النظر ورؤية الأمور من ناحية واحدة بنظرة ضيقة.
تراهم على شاشات التليفزيون، بحيث تجد قامات ومتخصصين ورجال مجتمع يتراشقون بالكلمات ويتشاجرون لحد قد يصل إلى الاشتباك بالأيدى، كل ذلك بسبب أنهم لم يتقبلوا وجهة النظر الأخرى، ولم يستطيعوا استيعاب الاختلاف، فمازالوا يعيشون فى العلاقات الجزئية فى مرحلة الطفولة المبكرة.
فلنبدأ بأنفسنا ولندرك الفرق بين الرجال ووعيهم وإدراكهم للحياة والأطفال وعنادهم ورفضهم لسماع صوت غير صوتهم حتى نحيا حياة سوية.