بقلم: محمد فاروق
الأب كائن فريد، يعيش عمره كله يسعى فى دائرة مغلقة دون أن يتوقف أو يمل، وكأن كتب عليه أن يواصل العمل لإسعاد غيره، وأن يبذل قصارى جهده للحصول على المال من أجل إنفاقه على من حوله.
هذا الأب المكافح – وهنا أتحدث عن الآباء الأسوياء- تبدأ قصته منذ أن يقرر أن يرتبط بفتاة أحلامه، وهنا عليه شراء الشبكة التى أصبحت تمثل ثروة حقيقية فى ظل الارتفاع الجنونى فى أسعار الذهب ورفاقه، والتى هى فى الأساس عبارة عن هدية للعروس، لكن المصريين اعتبروها “هدية إجبارية”.
ثم يأتى الحصول على عش الزوجية السعيد الذى لا يمت لكلمة “عش” بأية صلة، حيث إنه فى الواقع يتم شراؤه وتجهيزه على أساس أنه قصر، فلابد أن تكون مساحته كبيرة كى يتسع للأولاد الذين مازالوا فى علم الغيب، ويتضمن حمامين أو ثلاثة وريسبشن كبيرا مكونا من ثلاث قطع على الأقل رغم أنه سيظل مهجورا إلى أن يزور العروسين أى عابر سبيل من أهليهما.
ثم تأتى مرحلة تجهيز العش الجميل من موبيليات فاخرة وأجهزة ذات ماركات قيّمة، ولا ننسى غرفة الأطفال، والسفرة التى تبدأ من ثمانية كراسى فصاعدا، رغم أنها لا تستخدم سوى فى عزومتين أو ثلاث طوال العام، والأهم من كل ذلك هو “دولاب الفضية” لوضع الصينى وطقم الفضية وغيرها من هذه الأشياء التى سيتم تحنيطها ووضعها داخل هذا التابوت ولن يكتب لها أن ترى النور سوى عند تنظيفها فقط ثم العودة سريعا داخل فاترينة العرض، فالصينى والفضيات هذه للعرض فقط وليست للاستخدام أو حتى اللمس رغم أسعارها الباهظة.
ثم تأتى التجهيزات الخاصة بالفرح الذى لابد وأن يقام فى فندق خمس نجوم أو دار ذات اسم محترم، وهذا الفرح الذى لا يستمر لأكثر من ثلاث ساعات يتم فيه صرف مبالغ قد لا يستطيع العروسان تدبيرها أو ادخارها فى خمس سنوات تالية بعد الزواج وربما أكثر.
وأخيرا، يتزوج هذا الرجل الطيب معتقدا أن مرحلة التعب والشقاء قد انتهت، وهو لا يدرى أنها قد بدأت، فبمجرد أن تبدأ الزوجة حملها، يبدأ الزوج فى البحث سريعا عن طبيب ذى سمعة طيبة، وتستمر مرحلة متابعة الجنين بمصاريفها. ثم تأتى الولادة، ولك أن تتخيل أن ثمن الغرفة فى الليلة الواحدة فى مستشفيات الولادة أصبح أغلى من أفخم فندق على النيل، ثم يأتى حفل السبوع أو العقيقة محملا بمصروفات تليق بولى العهد المبجل، وتتوالى السنوات ويستمر الأب فى النزيف المتزايد للمصروفات على أشياء ما أنزل الله بها من سلطان.
ثم يكبر الطفل ويذهب للمدرسة، وهنا تبدأ “مرحلة الوحش”، فكل ما سبق لا يمثل شيئا مقارنة بما هو آتٍ، فأنا أرى أنه من الأفضل أن يتم تحويل مرتبات الآباء مباشرة إلى حساب المدرسة فى البنك. ثم يكبر الطفل ويصبح فى حاجة ضرورية إلى دروس خصوصية كى تكتمل المأساة، ويظل الأب يجاهد إلى أن ينتهى ابنه من مرحلة المدرسة، ويعتقد الأب المسكين أن القادم أهون، ليفاجأ بمصروفات الجامعات، سواء خاصة أو أجنبية أو دولية، فالجامعات الحكومية صارت “أولد فاشون”، ويظل الأب يلهث حتى ينهى ابنه المرحلة الجامعية والتعليم، ليتوهم للمرة العاشرة بأنه أخيرا سيرتاح بعد أن أدى رسالته مع ابنه، ولا يدرى أنه سيبدأ الرحلة مرة أخرى من أولها، فسيظل يعتنى بابنه حتى يجد عملا، وبعد أن يعمل الابن لن يقطع الأب عنه بالطبع المصروف، فمرتب الابن لا يكفى.
وقبل أن يبدأ الأب فى أخذ شهيق عميق لم يتنفسه منذ شبابه، إذ بالتاريخ يعيد نفسه، فالابن يريد أن يكمل نصف دينه ويرتبط، وطبعا إمكانياته لا تسمح، وبالطبع الوالد هو الذى سيتحمل مصروفات هذا الارتباط السعيد، ليبدأ هذا المخلوق المسكين القصة من أولها ثانية.
أجمل شىء فى قصة هذا الأب الحنون المثابر أنه يعيش عمره كله معتقدا أنه فى نهاية كل مرحلة أخيرا سيرتاح، إلا أنه يكتشف بعد مرور الزمن أن الراحة كلمة غير مدرجة بقاموسه، لكنه -لأنه مخلوق متفان- يرضى نفسه القنوعة بسعادة تكمن فى تعبه من أجل أسرته.